فصل: (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ): (هَلْ يَجُوزُ الْوَعْدُ بِالنَّفْلِ قَبْلَ الْحَرْبِ؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْأَنْفَالِ:

وَأَمَّا تَنْفِيلُ الْإِمَامِ مِنَ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ شَاءَ (أَعْنِي: أَنْ يَزِيدَهُ عَلَى نَصِيبِهِ) فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ النَّفْلُ، وَفِي مِقْدَارِهِ؟
وَهَلْ يَجُوزُ الْوَعْدُ بِهِ قَبْلَ الْحَرْبِ؟
وَهَلْ يَجِبُ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ أَمْ لَيْسَ يَجِبُ إِلَّا أَنْ يُنَفِّلَهُ لَهُ الْإِمَامُ؟
فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ هِيَ قَوَاعِدُ هَذَا الْفَصْلِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [مِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ النَّفْلُ؟

]:
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: النَّفْلُ يَكُونُ مِنَ الْخُمُسِ الْوَاجِبِ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ النَّفْلُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَهُوَ حَظُّ الْإِمَامِ فَقَطْ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ النَّفْلُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَجَازَ تَنْفِيلَ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلْ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْوَارِدَتَيْنِ فِي الْمَغَانِمِ تَعَارُضٌ أَمْ هُمَا عَلَى التَّخْيِيرِ؟
أَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الْآيَةَ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} قَالَ: لَا نَفْلَ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ، أَوْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُمَا عَلَى التَّخْيِيرِ (أَعْنِي: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ مَنْ شَاءَ، وَلَهُ أَلَّا يُنَفِّلَ، بِأَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَ أَرْبَاعِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ) قَالَ بِجَوَازِ النَّفْلِ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ. وَلِاخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا سَبَبٌ آخَرُ: وَهُوَ اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَفِي ذَلِكَ أَثَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً، فَكَانَ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا». وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْلَ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مِنَ الْخُمُسِ.
وَالثَّانِي: حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ مِنَ السَّرَايَا بَعْدَ الْخُمُسِ فِي الْبَدَاءَةِ، وَيُنَفِّلُهُمُ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي الرَّجْعَةِ». (يَعْنِي: فِي بَدَاءَةِ غَزْوِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي انْصِرَافِهِ).

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [مِقْدَارُ النَّفْلِ]:

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ مَا مِقْدَارُ مَا لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الَّذِينَ أَجَازُوا النَّفْلَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ؟
فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ عَلَى حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ نَفَّلَ الْإِمَامُ السَّرِيَّةَ جَمِيعَ مَا غَنِمَتْ جَازَ، مَصِيرًا إِلَى أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بَلْ مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّهَا عَلَى عُمُومِهَا غَيْرُ مُخَصَّصَةٍ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ بِهَذَا الْأَثَرِ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أَكْثَرَ مِنَ الرُّبُعِ أَوِ الثُّلُثِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [هَلْ يَجُوزُ الْوَعْدُ بِالنَّفْلِ قَبْلَ الْحَرْبِ؟

]:
وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ هَلْ يَجُوزُ الْوَعْدُ بِالتَّنْفِيلِ قَبْلَ الْحَرْبِ حكمه أَمْ لَيْسَ يَجُوزُ ذَلِكَ؟
فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَكَرِهُ ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَجَازَهُ جَمَاعَةٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ مَقْصِدِ الْغَزْوِ لِظَاهِرِ الْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَزْوَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَإِذَا وَعَدَ الْإِمَامُ بِالنَّفْلِ قَبْلَ الْحَرْبِ خِيفَ أَنْ يَسْفِكَ الْغُزَاةُ دِمَاءَهُمْ فِي حَقِّ غَيْرِ اللَّهِ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الَّذِي يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ جَوَازَ الْوَعْدِ بِالنَّفْلِ: فَهُوَ حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ: «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْغَزْوِ السَّرَايَا الْخَارِجَةَ مِنَ الْعَسْكَرِ الرُّبُعَ، وَفِي الْقُفُولِ الثُّلُثَ». وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا إِنَّمَا هُوَ التَّنْشِيطُ عَلَى الْحَرْبِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ]: [هَلْ يَجِبُ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ دُونَ أَنْ يُنَفِّلَهُ الْإِمَامُ؟

]:
وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ هَلْ يَجِبُ سَلَبُ الْمَقْتُولِ لِلْقَاتِلِ حكمه، أَوْ لَيْسَ يَجِبُ إِلَّا إِنْ نَفَّلَهُ لَهُ الْإِمَامُ؟
فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ سَلَبَ الْمَقْتُولِ إِلَّا أَنْ يُنَفِّلَهُ لَهُ الْإِمَامُ عَلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْحَرْبِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَجَمَاعَةُ السَّلَفِ: وَاجِبٌ لِلْقَاتِلِ، قَالَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ جَعَلَ السَّلَبَ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ شَرْطًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ السَّلَبُ إِلَّا إِذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا يَكُونُ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ قَبْلَ مَعْمَعَةِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَهَا، وَأَمَّا إِنْ قَتَلَهُ فِي حِينِ الْمَعْمَعَةِ فَلَيْسَ لَهُ سَلَبٌ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنِ اسْتَكْثَرَ الْإِمَامُ السَّلَبَ جَازَ أَنْ يُخَمِّسَهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ احْتِمَالُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعْدَمَا بَرَدَ الْقِتَالُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى جِهَةِ النَّفْلِ، أَوْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْقَاتِلِ، وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوِيَ عِنْدَهُ أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ النَّفْلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَا قَضَى بِهِ إِلَّا أَيَّامَ حُنَيْنٍ، وَلِمُعَارَضَةِ آيَةِ الْغَنِيمَةِ لَهُ إِنْ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ (أَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الْآيَةَ). فَإِنَّهُ لَمَّا نَصَّ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِلَّهِ عُلِمَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ وَاجِبَةٌ لِلْغَانِمِينَ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأُمِّ فِي الْمَوَارِيثِ عُلِمَ أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِلْأَبِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْفُوظٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُنَيْنٍ وَفِي بَدْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ». وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ حَمَلَ عَلَى مَرْزُبَانَ يَوْمَ الدَّارَةِ فَطَعَنَهُ طَعْنَةً عَلَى قَرَبُوسِ سَرْجِهِ فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ سَلَبُهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ: إِنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ قَدْ بَلَغَ مَالًا كَثِيرًا، وَلَا أُرَانِي إِلَّا خَمَّسْتُهُ. قَالَ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فَحَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ أَوَّلُ سَلَبٍ خُمِّسَ فِي الْإِسْلَامِ، وَبِهَذَا تَمَسَّكَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّلَبِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّلَبِ الْوَاجِبِ مَا هُوَ؟
فَقَالَ قَوْمٌ: لَهُ جَمِيعُ مَا وَجَدَ عَلَى الْمَقْتُولِ، وَاسْتَثْنَى قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي حُكْمِ مَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْكُفَّارِ:

وَأَمَّا أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي تُسْتَرَدُّ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ بعد الحرب حكمها: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَا اسْتَرَدَّ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لِأَرْبَابِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْغُزَاةِ الْمُسْتَرِدِّينَ لِذَلِكَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَا اسْتَرَدَّ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ غَنِيمَةُ الْجَيْشِ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الْقَسْمِ فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ بِلَا ثَمَنٍ، وَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَسْمِ فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ بِالْقِيمَةِ، وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ: فَبَعْضُهُمْ رَأَى هَذَا الرَّأْيَ فِي كُلِّ مَا اسْتَرَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ بِأَيِّ وَجْهٍ صَارَ ذَلِكَ إِلَى أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ صَارَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا صَارَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَيْدِي الْكُفَّارِ غَلَبَةً وَحَازُوهُ حَتَّى أَوْصَلُوهُ إِلَى دَارِ الْمُشْرِكِينَ، وَبَيْنَ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَحُوزُوهُ وَيَبْلُغُوا بِهِ دَارَ الشِّرْكِ، فَقَالُوا: مَا حَازُوهُ فَحُكْمُهُ إِنْ أَلْفَاهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقَسْمِ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ أَلْفَاهُ بَعْدَ الْقَسْمِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ. قَالُوا: وَأَمَّا مَا لَمْ يَحُزْهُ الْعَدُوُّ بِأَنْ يَبْلُغُوا دَارَهُمْ بِهِ فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ قَبْلَ الْقَسْمِ وَبَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الرَّابِعُ. وَاخْتِلَافُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي هَلْ يَمْلِكُ الْكُفَّارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَهُمْ إِذَا غَلَبُوهُمْ عَلَيْهَا أَمْ لَيْسَ يَمْلِكُونَهَا؟
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسَ يَمْلِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، وَهُوَ قَالَ: أَغَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ وَأَخَذُوا الْعَضْبَاءَ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْرَأَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَامَتِ الْمَرْأَةُ وَقَدْ نَامُوا، فَجَعَلَتْ لَا تَضَعُ يَدَهَا عَلَى بَعِيرٍ إِلَّا أَرْغَى حَتَّى أَتَتِ الْعَضْبَاءَ، فَأَتَتْ نَاقَةً ذَلُولًا فَرَكِبَتْهَا ثُمَّ تَوَجَّهَتْ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَنَذَرَتْ لَئِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ لَتَنْحَرُهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ عُرِفَتِ النَّاقَةُ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَتْهُ الْمَرْأَةُ بِنَذْرِهَا، فَقَالَ: «بِئْسَ مَا جَزَيْتِهَا، لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ». وَكَذَلِكَ يَدُلُّ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ أَغَارَ لَهُ فَرَسٌ فَأَخَذَهَا الْعَدُوُّ فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمَا حَدِيثَانِ ثَابِتَانِ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ» يَعْنِي: أَنَّهُ بَاعَ دُورَهُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ مِنْهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَإِنَّ مَنْ شَبَّهَ الْأَمْوَالَ بِالرِّقَابِ قَالَ: الْكُفَّارُ كَمَا لَا يَمْلِكُونَ رِقَابَهُمْ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَهُمْ، كَحَالِ الْبَاغِي مَعَ الْعَادِلِ (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا). وَمَنْ قَالَ يَمْلِكُونَ قَالَ: مَنْ لَيْسَ يَمْلِكُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلشَّيْءِ إِنْ فَاتَتْ عَيْنُهُ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ ضَامِنِينَ لِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَزِمَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا بِغَيْرِ مَالِكِينَ لِلْأَمْوَالِ، فَهُمْ مَالِكُونَ، إِذْ لَوْ كَانُوا غَيْرَ مَالِكِينَ لَضَمِنُوا.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحُكْمِ قَبْلَ الْغُنْمِ وَبَعْدَهُ، وَبَيْنَ مَا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ بِغَلَبَةٍ أَوْ بِغَيْرِ غَلَبَةٍ، بِأَنْ صَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ تِلْقَائِهِ، مِثْلَ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْفَرَسِ الْعَائِدِ فَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ يَجِدُ وَسَطًا بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إِمَّا أَنْ يَمْلِكَ الْمُشْرِكُ عَلَى الْمُسْلِمِ شَيْئًا، أَوْ لَا يَمْلِكَهُ، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ، لَكِنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْمَذْهَبِ إِنَّمَا صَارُوا إِلَيْهِ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ بَعِيرًا لَهُ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ أَصَابُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَصَبْتَهُ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ فَهُوَ لَكَ، وَإِنْ أَصَبْتَهُ بَعْدَ الْقَسْمِ أَخَذْتَهُ بِالْقِيمَةِ». لَكِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عُمَارَةَ مُجْتَمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ وَتَرْكِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ مَالِكٌ فِيمَا أَحْسَبُ مِنْ ذَلِكَ: هُوَ قَضَاءُ عُمَرَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ يَجْعَلُ لَهُ أَخْذَهُ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الْقَسْمِ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِهِ، وَاسْتِثْنَاءُ أَبِي حَنِيفَةَ أُمَّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَائِرَ الْأَمْوَالِ مَا عَدَا هَذَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي أُمِّ الْوَلَدِ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَهَا مَوْلَاهَا بَعْدَ الْقَسْمِ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْدِيَهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْبَرَ سَيِّدَهَا عَلَى فِدَائِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُعْطِيَتْ لَهُ، وَاتَّبَعَهُ الَّذِي أُخْرِجَتْ فِي نَصِيبِهِ بِقِيمَتِهَا دَيْنًا مَتَى أَيْسَرَ، هُوَ قَوْلٌ أَيْضًا لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَمْلِكْهَا الْكُفَّارُ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَإِنْ مَلَكُوهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي ذَلِكَ سَمَاعٌ. وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ (أَعْنِي: مِنَ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ يَمْلِكُ الْمُشْرِكُ مَالَ الْمُسْلِمِ أَوْ لَا يَمْلِكُ؟
) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ وَبِيَدِهِ مَالُ مُسْلِمٍ حكم هذا المال هَلْ يَصِحُّ لَهُ أَمْ لَا؟
فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَصْلِهِ: لَا يَصِحُّ لَهُ.
وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ إِلَى الْكُفَّارِ عَلَى جِهَةِ التَّلَصُّصِ وَأَخَذَ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مَالَ مُسْلِمٍ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ أَرَادَهُ صَاحِبُهُ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ لِصَاحِبِهِ، فَلَمْ يَجْرِ عَلَى أَصْلِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ وَيُهَاجِرُ وَيَتْرُكُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَدَهُ وَزَوْجَهُ وَمَالَهُ، هَلْ يَكُونُ لِمَا تَرَكَ حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ وَزَوْجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ إِنْ غَلَبُوا عَلَى ذَلِكَ، أَمْ لَيْسَ لِمَا تَرَكَ حُرْمَةٌ؟
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لِكُلِّ مَا تَرَكَ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَالِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِلْمَالِ حُرْمَةٌ، وَلِلْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ حُرْمَةٌ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُبِيحَ لِلْمَالِ هُوَ الْكُفْرُ، وَأَنَّ الْعَاصِمَ لَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ». فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَاهُنَا مُبِيحًا لِلْمَالِ غَيْرَ الْكُفْرِ مِنْ تَمَلُّكِ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَلَيْسَ هَاهُنَا دَلِيلٌ تُعَارَضُ بِهِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي حُكْمِ مَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْأَرْضِ عَنْوَةً:

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْأَرْضِ عَنْوَةً. فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقَسَّمُ الْأَرْضُ، وَتَكُونُ وَقْفًا يُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَبَنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُبُلِ الْخَيْرِ، إِلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي الْقِسْمَةَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ الْأَرْضَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَرَضُونَ الْمُفْتَتَحَةُ تُقَسَّمُ كَمَا تُقَسَّمُ الْغَنَائِمُ (يَعْنِي: خَمْسَةَ أَقْسَامٍ). وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُقَسِّمَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يَضْرِبَ عَلَى أَهْلِهَا الْكُفَّارِ فِيهَا الْخَرَاجَ وَيُقِرَّهَا بِأَيْدِيهِمْ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَا يُظَنُّ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَآيَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ. وَذَلِكَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ تَقْتَضِي بِظَاهِرِهَا أَنَّ كُلَّ مَا غُنِمَ يُخَمَّسُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْحَشْرِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} عَطْفًا عَلَى ذِكْرِ الَّذِينَ أَوْجَبَ لَهُمُ الْفَيْءَ يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ وَالْآتِينَ شُرَكَاءُ فِي الْفَيْءِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}، مَا أَرَى هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا قَدْ عَمَّتِ الْخَلْقَ حَتَّى الرَّاعِيَ بِكَدَاءٍ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُقَسَّمِ الْأَرْضُ الَّتِي افْتُتِحَتْ فِي أَيَّامِهِ عَنْوَةً مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَمِصْرَ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ مُتَوَارِدَتَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَأَنَّ آيَةَ الْحَشْرِ مُخَصِّصَةٌ لِآيَةِ الْأَنْفَالِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْأَرْضَ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ لَيْسَتَا مُتَوَارِدَتَيْنِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، بَلْ رَأَى أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَآيَةَ الْحَشْرِ فِي الْفَيْءِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: تُخَمَّسُ الْأَرْضُ وَلَا بُدَّ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَّمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغُزَاةِ. قَالُوا: فَالْوَاجِبُ أَنْ تُقَسَّمَ الْأَرْضُ لِعُمُومِ الْكِتَابِ، وَفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى الْبَيَانِ لِلْمُجْمَلِ فَضْلًا عَنِ الْعَامِّ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَرَّ الْكُفَّارُ فِيهَا عَلَى خَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ ابْنَ رَوَاحَةَ فَقَاسَمَهُمْ». قَالُوا: فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ قَسَّمَ جَمِيعَهَا، وَلَكِنَّهُ قَسَّمَ طَائِفَةً مِنَ الْأَرْضِ، وَتَرَكَ طَائِفَةً لَمْ يُقَسِّمْهَا، قَالُوا: فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الْإِمَامَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَالْإِقْرَارِ بِأَيْدِيهِمْ، وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ أَوْ قِسْمَتِهَا عَلَى مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ (أَعْنِي: مِنَ الْمَنِّ)، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى أَنَّهُ افْتَتَحَهَا عَنْوَةً، فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ افْتَتَحَهَا عَنْوَةً لِأَنَّهُ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ آيَةَ الْفَيْءِ وَآيَةَ الْغَنِيمَةِ مَحْمُولَتَانِ عَلَى الْخِيَارِ، وَأَنَّ آيَةَ الْفَيْءِ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْغَنِيمَةِ أَوْ مُخَصِّصَةٌ لَهَا أَنَّهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَالْآيَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ، لِأَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ تُوجِبُ التَّخْمِيسَ، وَآيَةَ الْحَشْرِ تُوجِبُ الْقِسْمَةَ دُونَ التَّخْمِيسِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى، أَوْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا بَيْنَ التَّخْمِيسِ وَتَرْكِ التَّخْمِيسِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ الْمَغْنُومَةِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ النَّاسِ وَأَظُنُّهُ حَكَاهُ عَنِ الْمَذْهَبِ. وَيَجِبُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا تَرْكَ قِسْمَةِ الْأَرْضِ، وَقِسْمَةُ مَا عَدَا الْأَرْضِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ مُخَصِّصَةً بَعْضَ مَا فِي الْأُخْرَى أَوْ نَاسِخَةً لَهُ، حَتَّى تَكُونَ آيَةُ الْأَنْفَالِ خَصَّصَتْ مِنْ عُمُومِ آيَةِ الْحَشْرِ مَا عَدَا الْأَرَضِينَ فَأَوْجَبَتْ فِيهَا الْخُمُسَ، وَآيَةُ الْحَشْرِ خَصَّصَتْ مِنْ آيَةِ الْأَنْفَالِ الْأَرْضِ فَلَمْ تُوجِبْ فِيهَا خُمُسًا، وَهَذِهِ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ إِلَّا بِدَلِيلٍ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ آيَةِ الْحَشْرِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْقَوْلَ فِي نَوْعٍ مِنَ الْأَمْوَالِ مُخَالِفٍ الْحُكْمَ لِلنَّوْعِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْأَنْفَالِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا لَمْ يُوجَبْ حَقٌّ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً دُونَ النَّاسِ، وَالْقِسْمَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ إِذْ كَانَتْ تُؤْخَذُ بِالْإِيجَافِ.

.الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي قِسْمَةِ الْفَيْءِ:

وَأَمَّا الْفَيْءُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: فَهُوَ كُلُّ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ قِبَلِ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَفَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ أَوْ رَجْلٍ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُصْرَفُ إِلَيْهَا: فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْفَيْءَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي مِنْهُ لِلْمُقَاتِلَةِ وَلِلْحُكَّامِ وَلِلْوُلَاةِ، وَيُنْفِقُ مِنْهُ فِي النَّوَائِبِ الَّتِي تَنُوبُ الْمُسْلِمِينَ كَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَإِصْلَاحِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا خُمُسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الثَّابِتُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلْ يَكُونُ فِيهِ الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَقْسُومٌ عَلَى الْأَصْنَافِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي آيَةِ الْغَنَائِمِ، وَهُمُ الْأَصْنَافُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْخُمُسِ بِعَيْنِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَإِنَّ الْبَاقِيَ هُوَ مَصْرُوفٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِيَالِهِ وَمَنْ رَأَى. وَأَحْسَبُ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: إِنَّ الْفَيْءَ غَيْرُ مُخَمَّسٍ، وَلَكِنْ يُقَسَّمُ عَلَى الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ الَّذِينَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمُ الْخُمُسُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا أَحْسَبُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِ مَنْ رَأَى أَنَّهُ يُقَسَّمُ جَمِيعُهُ عَلَى الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ، أَوْ هُوَ مَصْرُوفٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ: هُوَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي قِسْمَةِ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ (أَعْنِي: أَنَّ مَنْ جَعَلَ ذِكْرَ الْأَصْنَافِ فِي الْآيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لَهُ قَالَ: هُوَ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ وَمَنْ فَوْقَهُمْ). وَمَنْ جَعَلَ ذِكْرَ الْأَصْنَافِ تَعْدِيدًا لِلَّذِينِ يَسْتَوْجِبُونَ هَذَا الْمَالَ قَالَ: لَا يَتَعَدَّى بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ، (أَعْنِي: أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ لَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ).
وَأَمَّا تَخْمِيسُ الْفَيْءِ: فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ رَأَى الْفَيْءَ قَدْ قُسِّمَ فِي الْآيَةِ عَلَى عَدَدِ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ قُسِّمَ عَلَيْهِمُ الْخُمُسُ، فَاعْتَقَدَ لِذَلِكَ أَنَّ فِيهِ الْخُمُسَ، لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْخُمُسِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِظَاهِرٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ تَخُصُّ جَمِيعَ الْفَيْءِ لَا جُزْءًا مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِيمَا أَحْسَبُ قَوْمٌ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصَةً، فَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ.

.الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي الْجِزْيَةِ:

وَالْكَلَامُ الْمُحِيطُ بِأُصُولِ هَذَا الْفَصْلِ يَنْحَصِرُ فِي سِتِّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: مِمَّنْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ؟
الثَّانِيَةُ: عَلَى أَيِّ الْأَصْنَافِ مِنْهُمْ تَجِبُ الْجِزْيَةُ؟
الثَّالِثَةُ: كَمْ تَجِبُ؟
الرَّابِعَةُ: مَتَى تَجِبُ وَمَتَى تَسْقُطُ؟
الْخَامِسَةُ: كَمْ أَصْنَافُ الْجِزْيَةِ؟
السَّادِسَةُ: فِي مَاذَا يُصْرَفُ مَالُ الْجِزْيَةِ؟

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [مِمَّنْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ؟

]:
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فَأَمَّا مَنْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ؟
فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَجَمِ، وَمِنَ الْمَجُوسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِهَا مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ، وَفِيمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْعَرَبِ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ فِيمَا حَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ قُرَشِيٍّ كِتَابِيٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [الْأَصْنَافُ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ]:

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَيُّ الْأَصْنَافِ مِنَ النَّاسِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ؟
فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا إِنَّمَا تَجِبُ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ: الذُّكُورِيَّةِ، وَالْبُلُوغِ، وَالْحُرِّيَّةِ. وَأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَا عَلَى الصِّبْيَانِ، إِذَا كَانَتْ إِنَّمَا هِيَ عِوَضٌ مِنَ الْقَتْلِ، وَالْقَتْلُ إِنَّمَا هُوَ مُتَوَجِّهٌ بِالْأَمْرِ نَحْوَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ، إِذْ قَدْ نُهِيَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْعَبِيدِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَصْنَافٍ مِنْ هَؤُلَاءِ: مِنْهَا فِي الْمَجْنُونِ وَفِي الْمُقْعَدِ، وَمِنْهَا: فِي الشَّيْخِ، وَمِنْهَا: فِي أَهْلِ الصَّوَامِعِ، وَمِنْهَا: فِي الْفَقِيرِ هَلْ يُتْبَعُ بِهَا دَيْنًا مَتَى أَيْسَرَ أَمْ لَا؟
وَكُلُّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ اجْتِهَادِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيفٌ شَرْعِيٌّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى: هَلْ يُقْتَلُونَ أَمْ لَا؟
(أَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ).

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ]:

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ كَمِ الْوَاجِبُ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا فَرَضَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ: أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَمَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ، وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّهُ مَحْدُودٌ وَهُوَ دِينَارٌ، وَأَكْثَرُهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يُصَالَحُونَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَوْقِيتَ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ مَصْرُوفٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الْجِزْيَةُ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، لَا يُنْقَصُ الْفَقِيرُ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَلَا يُزَادُ الْغَنِيُّ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَالْوَسَطُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَ أَحْمَدُ: دِينَارٌ أَوْ عَدْلُهُ مَعَافِرَ، لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرَ» وَهِيَ ثِيَابٌ بِالْيَمَنِ. وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ: أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ: أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، مَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ، وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَاثْنَيْ عَشَرَ. فَمَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ وَتَمَسَّكَ فِي ذَلِكَ بِعُمُومِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ جِزْيَةٍ، إِذْ لَيْسَ فِي تَوْقِيتِ ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الْكِتَابُ فِي ذَلِكَ عَامًّا، قَالَ: لَا حَدَّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَالثَّابِتِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: أَقَلُّهُ مَحْدُودٌ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ. وَمَنْ رَجَّحَ أَحَدَ حَدِيثَيْ عُمَرَ قَالَ: إِمَّا بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَإِمَّا بِثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ مُعَاذٍ لِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ قَالَ: دِينَارٌ فَقَطْ، أَوْ عَدْلُهُ مَعَافِرَ، لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ.

.[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ]: [مَتَى تَجِبُ الْجِزْيَةُ، وَمَتَى تَسْقُطُ؟

]:
وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ مَتَى تَجِبُ الْجِزْيَةُ؟
فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بَعْدَ الْحَوْلِ، وَأَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ مَا يَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ: هَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةٌ لِلْحَوْلِ الْمَاضِي بِأَسْرِهِ أَوْ لِمَا مَضَى مِنْهُ؟
فَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا أَسْلَمَ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ كَانَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوْ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ. وَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ، لِأَنَّ الْحَوْلَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهَا، فَإِذَا وُجِدَ الرَّافِعُ لَهَا - وَهُوَ الْإِسْلَامُ - قَبْلَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ (أَعْنِي: قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِ الْوُجُوبِ) لَمْ تَجِبْ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ لِأَنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ: فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ هَذَا الْوَاجِبَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَهْدِمُ كَثِيرًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ قَالَ: تَسْقُطُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامُ هَذَا الْوَاجِبَ كَمَا لَا يَهْدِمُ كَثِيرًا مِنَ الْحُقُوقِ الْمُتَرَتِّبَةِ مِثْلَ الدُّيُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ: لَا تَسْقُطُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ. فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلِ الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ الْجِزْيَةَ الْوَاجِبَةَ أَوْ لَا يَهْدِمُهَا؟

.[الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ]: [أَصْنَافُ الْجِزْيَةِ]:

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَهِيَ كَمْ أَصْنَافُ الْجِزْيَةِ؟
فَإِنَّ الْجِزْيَةَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
جِزْيَةٌ عَنْوِيَّةٌ: وَهِيَ هَذِهِ الَّتِي تَكَلَّمْنَا فِيهَا (أَعْنِي: الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ بَعْدَ غَلَبَتِهِمْ).
وَجِزْيَةٌ صُلْحِيَّةٌ: وَهِيَ الَّتِي يَتَبَرَّعُونَ بِهَا لِيُكَفَّ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيتٌ، لَا فِي الْوَاجِبِ، وَلَا فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا مَتَى يَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الِاتِّفَاقِ الْوَاقِعِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الصُّلْحِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ قَبُولُ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا قَدْرٌ مَا إِذَا أَعْطَاهُ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْكُفَّارُ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ أَقَلُّهَا مَحْدُودًا، وَأَكْثَرُهَا غَيْرَ مَحْدُودٍ.
وَأَمَّا الْجِزْيَةُ الثَّالِثَةُ: فَهِيَ الْعُشْرِيَّةُ: وَذَلِكَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عُشْرٌ، وَلَا زَكَاةٌ أَصْلًا فِي أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ ضَاعَفُوا الصَّدَقَةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ (أَعْنِي: أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا إِعْطَاءَ ضِعْفِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي شَيْءٍ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَلْزَمُ فِيهَا الْمُسْلِمِينَ الصَّدَقَةُ)، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ فِعْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِمْ، وَلَيْسَ يُحْفَظُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ نَصٌّ فِيمَا حَكَوْا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ الْعُشْرُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يَتَّجِرُونَ بِهَا إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ التِّجَارَةِ، أَوِ الْإِذْنِ إِنْ كَانُوا حَرْبِيِّينَ، أَمْ لَا تَجِبُ إِلَّا بِالشَّرْطِ؟
فَرَأَى مَالِكٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ تُجَّارَ أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ لَزِمَتْهُمْ بِالْإِقْرَارِ فِي بَلَدِهِمِ الْجِزْيَةُ يَجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ مِمَّا يَجْلِبُونَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدِ الْعُشْرُ، إِلَّا مَا يَسُوقُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ خَاصَّةً فَيُؤْخَذُ مِنْهُ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَوَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي وُجُوبِهِ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ أَوْ بِالتِّجَارَةِ نَفْسِهَا وَخَالَفَهُ فِي الْقَدْرِ، فَقَالَ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ نِصْفُ الْعُشْرِ. وَمَالِكٌ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ فِي الْعُشْرِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُ نِصَابًا وَلَا حَوْلًا.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاشْتَرَطَ فِي وُجُوبِ نِصْفِ الْعُشْرِ عَلَيْهِمُ الْحَوْلَ وَالنِّصَابَ، وَهُوَ نِصَابُ الْمُسْلِمِينَ نَفْسُهُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ عُشْرٌ أَصْلًا، وَلَا نِصْفُ عُشْرٍ فِي نَفْسِ التِّجَارَةِ وَلَا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مَحْدُودٌ إِلَّا مَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ أَوِ اشْتُرِطَ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجِزْيَةُ الْعُشْرِيَّةُ مِنْ نَوْعِ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ، وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ جِنْسًا ثَالِثًا مِنَ الْجِزْيَةِ غَيْرِ الصُّلْحِيَّةِ وَالَّتِي عَلَى الرِّقَابِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ فِعْلَ عُمَرَ هَذَا إِنَّمَا فَعَلَهُ بِأَمْرٍ كَانَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُنَّتَهُمْ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ، إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِسُنَّةٍ لَازِمَةٍ لَهُمْ إِلَّا بِالشَّرْطِ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا أَذْكُرُ اسْمَهُ الْآنَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لِمَ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَ الْعُشْرَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ؟
فَقَالَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا الْعُشْرَ إِذَا دَخَلْنَا إِلَيْهِمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ أَنْ يُشَارِطُوا عَلَيْهِ هُوَ مَا فَرَضَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنْ شُورِطُوا عَلَى أَكْثَرَ فَحَسَنٌ. قَالَ: وَحُكْمُ الْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ حُكْمُ الذِّمِّيِّ.

.[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ]: [مَصَارِفُ الْجِزْيَةِ]:

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَهِيَ فِي مَاذَا تُصْرَفُ الْجِزْيَةَ؟
فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، كَالْحَالِ فِي الْفَيْءِ عِنْدَ مَنْ رَأَى أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، حَتَّى لَقَدْ رَأَى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ اسْمَ الْفَيْءِ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْجِزْيَةِ فِي آيَةِ الْفَيْءِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا، فَالْأَمْوَالُ الْإِسْلَامِيَّةُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صَدَقَةٌ، وَفَيْءٌ، وَغَنِيمَةٌ. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي تَحْصِيلِ قَوَاعِدِ هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

.كِتَابُ الْأَيْمَانِ:

وَهَذَا الْكِتَابُ يَنْقَسِمُ أَوَّلًا إِلَى جُمْلَتَيْنِ:
الْجُمْلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْرِفَةِ ضُرُوبِ الْأَيْمَانِ وَأَحْكَامِهَا.
وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ الرَّافِعَةِ لِلْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ وَأَحْكَامِهَا.

.الْجُمْلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْرِفَةِ ضُرُوبِ الْأَيْمَانِ وَأَحْكَامِهَا:

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الْأَيْمَانِ الْمُبَاحَةِ وَتَمْيِيزِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُبَاحَةِ.
الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ الْأَيْمَانِ اللَّغْوِيَّةِ وَالْمُنْعَقِدَةِ.
الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ الْأَيْمَانِ الَّتِي تَرْفَعُهَا الْكَفَّارَةُ وَالَّتِي لَا تَرْفَعُهَا.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَيْمَانِ الْمُبَاحَةِ وَتَمْيِيزِهَا مِنْ غَيْرِهَا:

وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ مِنْهَا مَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُقْسَمَ بِهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا أَيُّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْحَلِفَ الْمُبَاحَ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ، وَأَنَّ الْحَالِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ عَاصٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِكُلِّ مُعَظَّمٍ بِالشَّرْعِ. وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْأَيْمَانَ الْمُبَاحَةَ هِيَ الْأَيْمَانُ بِاللَّهِ اتَّفَقُوا عَلَى إِبَاحَةِ الْأَيْمَانِ الَّتِي بِأَسْمَائِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي بِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُعَظَّمَةِ بِالشَّرْعِ: مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَقْسَمَ فِي الْكِتَابِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}، وَقَوْلِهِ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْسَامِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ». فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَثَرِ وَالْكِتَابِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَشْيَاءَ الْوَارِدَةَ فِي الْكِتَابِ الْمَقْسُومَ بِهَا فِيهَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَرَبِّ النَّجْمِ، وَرَبِّ السَّمَاءِ قَالَ: الْأَيْمَانُ الْمُبَاحَةُ هِيَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ فَقَطْ. وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ: أَنْ لَا يُعَظَّمَ مَنْ لَمْ يُعَظِّمِ الشَّرْعُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِيهِ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» وَأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ، أَجَازَ الْحَلِفَ بِكُلِّ مُعَظَّمٍ فِي الشَّرْعِ. فَإِذًا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي بِنَاءِ الْآيِ وَالْحَدِيثِ.
وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ الْحَلِفَ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ فَضَعِيفٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلْ يُقْتَصَرُ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَا جَاءَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ فِيهِ بِالِاسْمِ فَقَطْ، أَوْ يُعَدَّى إِلَى الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، لَكِنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ فِي الْحَدِيثِ بِالِاسْمِ فَقَطْ جُمُودٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ مَرْوِيًّا فِي الْمَذْهَبِ، حَكَاهُ اللَّخْمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ. وَشَذَّتْ فِرْقَةٌ فَمَنَعَتِ الْيَمِينَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي مُخَالَفَةِ هَذَا الْمَذْهَبِ.